صعود اللاعبين اللادولتيين- فشل الدولة الوطنية وولادة المقاومة العربية

المؤلف: عريب الرنتاوي09.08.2025
صعود اللاعبين اللادولتيين- فشل الدولة الوطنية وولادة المقاومة العربية

شهدت العقود الثلاثة الأولى من هذا القرن بروزًا لافتًا للاعبين من غير الدول في الساحة العربية. أغلب هؤلاء، إن لم يكن كلهم، ينحدرون من خلفيات دينية إسلامية، سواء كانت سنية أو شيعية. وقد فاقت قدرات بعض منظماتهم إمكانيات الأنظمة الحاكمة وأجهزتها المسيطرة في بلدانهم.

تستند بعض هذه المنظمات إلى منطلقات وطنية، وإن كانت ذات مرجعيات دينية متباينة. بينما اتخذ البعض الآخر من "العالم بأسره" ميدانًا لمعاركه، كما هو الحال مع تنظيم الدولة والقاعدة. هناك أيضًا من ترعرع في كنف الأنظمة الحاكمة، مثل الجنجويد الذي تحول إلى قوات الدعم السريع في السودان، والحشد الشعبي في العراق. وفي المقابل، عززت بعض التنظيمات حضورها في مواجهة الأنظمة الحاكمة في بلدانها، كما فعل أنصار الله في اليمن خلال فترة حكم علي عبدالله صالح وحروبه الست عليهم. لكن الأهم من بين هذه التنظيمات هي تلك التي نشأت في صميم "المسألة الوطنية" وتصدت للاحتلال الأجنبي، مثل حماس وغيرها في فلسطين، وحزب الله في لبنان. وهناك أمثلة أخرى أقل أو أكثر أهمية في دول عربية أخرى وفي فترات زمنية مختلفة، مثل ليبيا والصومال والجزائر وغيرها.

لقد ساهم "طوفان الأقصى" وما تلاه في رفع شأن بعض هذه الحركات، حتى باتت تشكل "أرقامًا صعبة" لا يمكن تجاهلها. فقد أبلت هذه الحركات بلاءً حسنًا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ووصل أداؤها إلى حد "الإدهاش".

لقد حققت حماس إنجازات لم تستطع تحقيقها جيوش نظامية استهلكت مبالغ طائلة من مداخيل وثروات بلدانها. وتسببت حماس لإسرائيل في زلزال ستستمر تداعياته وعقده لعقود وأجيال قادمة.

من جانبه، نجح حزب الله على مدى سنوات في إرساء معادلة "توازن ردع" مع "الجيش الذي لا يقهر"، وتمكن من احتلال مكانة مرموقة في "التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي" لأكثر من عقدين كاملين.

أما أنصار الله، فيكفيهم أنهم أغلقوا، أو كادوا يغلقون، ميناء إيلات، وهو ما لم تنجح فيه دول عربية وازنة طيلة عقود الصراع العربي الإسرائيلي. وقبل أن يصبح "السلام" مع دولة الاحتلال "خيارًا استراتيجيًا وحيدًا" للناطقين بالضاد، فإن التقديرات الأميركية لحملة ترامب عليهم تأخذ منحى التشكيك والاتهام بالعجز والتيه.

لقد ذكرنا في بداية "طوفان الأقصى" أن هؤلاء اللاعبين من غير الدول يسحبون من رصيد "الدولة الوطنية" العربية، التي أخفقت في إدارة ملف "الحرب والسلام". فهي لم تحقق استقلالاً ناجزًا ولا تنمية مستدامة راسخة.

فالدولة لم تنتصر في حروبها مع أعدائها، ولم تجلب بسلامها معهم أمنًا واستقرارًا وحقوقًا. وفشلها المتكرر في حل "أم القضايا"، قضية فلسطين، يشهد على عجز بعضها وتواطؤ بعضها الآخر وتآمر بعضها الثالث.

اليوم، يخرج البعض بألسنتهم ملؤها التشفي والشماتة، لأن عداءهم لهذه الحركات تجاوز التزامهم بفكرة "الدولة" وتعدى حدود العقائد والسياسة إلى البعد الشخصي الخالص.

إنهم يستعجلون نهاية هذه الحقبة على أمل أن تشرق من جديد شمس "الدولة الوطنية". والبعض منهم لا يخجل من استعجال هذه النهاية، حتى وإن تطلب الأمر "التعاون مع العدو وتبادل الأدوار معه" لإنجاز مشروع التصفية، كما هو الحال في الحالة الفلسطينية واليمنية، أو ترجي الأميركيين لحث الإسرائيليين على معاودة الحرب على لبنان لإغلاق "ملف السلاح"، كما نُقل عن وزراء فريق لبناني قابل الموفدة الأميركية مؤخرًا في بيروت.

نهاية مرحلة أم بداية حقبة جديدة؟

هناك من يعتقد أن تجربة ربع قرن من صعود هؤلاء اللاعبين قد أوشكت على الانتهاء، وأن صفحة هذه القوى التي ملأت الساحة قد طويت أو حان طيها، ليستتب لهم ولرعاتهم ولمن يمثلونهم عرش الحكم والسيطرة، حتى وإن تم ذلك تحت هيمنة الاحتلال أو في ظل الرعاية والانتداب لمراكز استعمارية قديمة جديدة.

حسنًا أيها السادة؛ لا ضير في أن نكون جميعًا مع "الدولة الوطنية"، فهذا هو الأصل في الأشياء، وسنة الكون وقواعد الانتظام الاجتماعي والسياسي. لكن الدولة، لكي تكون "وطنية" حقًا، عليها أن تدلنا على طريق الخلاص من المستعمر الأجنبي، خاصة عندما يكون هذا الاستعمار إلغائيًا وعنصريًا وفاشيًا، ومجردًا من كل قيمة أو خلق، ومتحررًا من كل القواعد والضوابط. وأن يتحلى "الباب العالي" بالحد الأدنى من اللباقة التي تحفظ ماء الوجه على أقل تقدير، لا بأسلوب الاندفاع والاستفزاز الذي يسيطر على سلوك المكتب البيضاوي. على الدولة، لكي تصبح "وطنية" بحق، أن تعرض على شعبها خطتها أو خريطتها لتحقيق ذلك.

ولكي تكون الدولة "وطنية" بامتياز، ينبغي أن تكون "عادلة" قدر الإمكان، فلسنا سذجًا لنطالبها بإقامة ميزان العدل والإنصاف، وأن تقف على مسافة متقاربة من جميع أبنائها وبناتها وكياناتها ومكوناتها. وأن تتوقف عن تحويل أوطانها إلى بيئات طاردة لمواطنيها. وبالمناسبة، ليست غزة وحدها التي يُراد لها أن تصبح مكانًا طاردًا لأبنائها، فاستطلاعات الرأي العام ترصد رغبة الكثير من شباب العرب في شراء تذاكر باتجاه واحد لمغادرة الأوطان العربية.

وإذ نجزم، كما يجزم العديد من الخبراء السياسيين والاجتماعيين والمختصين في الحركات، من إسرائيليين وغربيين، بأنه من السابق لأوانه إصدار "شهادات وفاة" لهؤلاء اللاعبين من غير الدول، فإننا نكاد نجزم أيضًا بأن المنطقة العربية، وخاصة في المشرق، أصبحت بيئة خصبة لإنتاج واستقبال موجات جديدة من هذه المنظمات واللاعبين.

فالأسباب التي أدت إلى صعودهم في العقود الثلاثة الماضية ما زالت قائمة، بل وربما تفاقمت أكثر من أي وقت مضى. وستلعب القضية الفلسطينية من جديد دورها كمحفز لبقية العوامل المؤدية إلى عدم الاستقرار الإقليمي.

في فلسطين، قد تكون شعبية حماس قد تراجعت في غزة، وهذا أمر متوقع بعد أكثر من عام ونصف من حرب الإبادة والتطويق والتطهير. لكن الحركة تحافظ على شعبية كبيرة في بقية مناطق الانتشار الفلسطيني.

والأهم من ذلك، أن تراجع شعبية منافسيها في رام الله يتم بوتيرة أسرع. فليس كل تراجع في شعبية حماس سيصب في مصلحة السلطة الفلسطينية، أو سيرفع من قيمة "قدسية" التنسيق الأمني. ومن المرجح أن تكون غزة قد فتحت الأبواب على مصراعيها لظهور موجات جديدة من حركات المقاومة الفلسطينية، وإن بعد حين، خاصة وأن طريق السلطة إلى الدولة قد أُغلق بإحكام.

وفي لبنان، حيث جاء حزب الله بعد أن ظنت إسرائيل أنها نجحت في تطويع لبنان على مقاسات نظريتها الأمنية القومية، ليس من المنطقي أن يعتقد أحد أن الحزب قد اختفى أو سيختفي بموجب اتفاق وقف إطلاق النار. كما لا يمكن أن نتصور أن البيئة اللبنانية التي أنتجت نماذج مختلفة من المقاومة ستعجز عن إنتاج نموذج جديد منها، خاصة إذا استمر العدو في غطرسته واستعلائه، وظلت واشنطن تحتضنه، وبقيت الدولة عاجزة عن استعادة الأرض وإعادة الإعمار ووقف التعديات والاستفزازات الإسرائيلية.

أما في سوريا، فإن بوادر حركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي بدأت تظهر من درعا وجوارها. وليس من المستبعد أن تتطور الأمور إلى ما هو أبعد من ذلك وأخطر، كأن توفر ممارسات الاحتلال وردود الأفعال عليها مدخلًا لعودة أطراف عربية وإقليمية لتجديد دورها وحضورها، ومن بوابة مقاومة الاحتلال هذه المرة، وليس على خلفية "الانتقام" ممن أسقطوا حكم الأسد.

أما في اليمن، فإن أنصار الله يتمتعون بوضع فريد، فهم من جهة "لاعب غير دولتي"، ومن جهة أخرى يمثلون "الدولة" في شمال اليمن. وصمودهم في وجه الغارات الأميركية المكثفة وغير المسبوقة من حيث العدد والعتاد قد يمكنهم من تحقيق المزيد من المكاسب وتعزيز نفوذهم.

وخلاصة القول، إن "اللاعبين غير الدولتيين" ليسوا خيارًا تلجأ إليه الشعوب عن سابق إصرار وترصد، ولا بهدف "النكاية" بالدولة الوطنية. بل هو طريق تسلكه الشعوب بسبب فقدان الثقة بالدولة واكتشافها المتكرر لعجزها وفسادها.

إنه الطريق الذي تسلكه الشعوب التي سُلبت أوطانها وحرياتها، وأصبحت تتوق إلى الحرية والتحرر والاستقلال والسيادة، خاصة عندما تمتنع الدولة عن أداء وظائفها الأساسية ومهامها الجوهرية.

هو طريق تتبعه هذه الشعوب بعد أن يضيق صدرها بأنظمة الفساد والاستبداد. صحيح أن هذه الحركات ليست "نقية" بالكامل، وبعضها "ليس نقيًا على الإطلاق"، لكنها تبقى الممر الإجباري لتفجير طاقات الغضب والرفض للإبقاء على الوضع القائم.

والذين يبذلون الكثير من الوقت والجهد في التبشير بزوال هذه الظاهرة واستعجال أفولها، عليهم أن يبذلوا جهودًا مضاعفة لبناء أو إعادة بناء الدولة الوطنية القادرة على انتزاع الحقوق من أنياب مغتصبيها واحترام حرية المواطن وكرامته. وإلا فإن التاريخ سيعيد كتابة نفسه، مرة على شكل مأساة وأخرى على شكل مهزلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة